الاتزانية المجتمعية


نحن لسنا جيدين في بعض الأوقات، وفي معظم الأوقات نحن جيدون جدا، هذا هو مُنطلقنا، ذلك الوعي بكوننا بشرا يخطئ ويصيب ولا يمكننا أن نكون على صواب دائما مهما بلغ وعينا وجهدنا ومن يظن أنه لا يخطئ فهو أكثر المخطئين، ذلك الوعي بأن مسعى ترقِّي المرء في هذه الحياة هو أن يغلب صوابه على أخطائه مع وجود الأخطاء فجل من لا يخطئ، وأن تغلب مزاياه على عيوبه مع وجود العيوب فالكمال لله، وأن يغلب خيره على شره فيكثر نفعه  لنفسه وللآخرين من حوله على حد سواء، وكما تقول الحكمة المأثورة لسيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (الشر كامن في طبيعة كل أحد فإن غلبه صاحبه بطن وإن لم يغلبه ظهر) [غرر الحكم ودرر الكلم]، من غلب خيره على شره كثر نفعه ومن غلب شره على خيره كثر ضرره وما بين تحصيل النفع ودفع الضرر موازنة، ولا كمالية للإنسانية في هذه الحياة الدنيوية إنما سعي متواصل ومستمر نحو الأفضل دائما ومن أفضل لأفضل وهكذا دواليك، تلك هي الاتزانية المجتمعية، والمجتمع المتزن هو المجتمع الذي يغلب صوابه على أخطائه مع وجود الأخطاء وتغلب محاسنه على مساوئه مع وجود المساوئ وتغلب مزاياه على عيوبه مع وجود العيوب ويغلب خيره على شره فيكثر نفعه المتكامل تدريجيا ويقل ضرره المتعاطل تدريجيا بإذن الله وفضله ومشيئته.

إن المجتمعات العربية المسلمة مثالٌ للمجتمع المتزن اليوم، لاسيما مجتمعنا الليبي العربي المسلم، هذا ليس انحيازًا للمجتمعات العربية المسلمة التي أنتمي إليها، إنما هي وجهة نظري حيالها وحيال مجتمعنا الليبي الفاضل الذي ولدت وتربيت وقرأت وتعلمت وعملت وترعرعت فيه، لاسيما أنني أعيش حياتي اليومية بينهم كل يوم، بالصواب والأخطاء بالمحاسن والمساوئ بالمزايا والعيوب نحن مجتمع محافظ متزن يغلب صوابه على أخطائه مع وجود الأخطاء وتغلب محاسنه على مساوئه مع وجود المساوئ وتغلب مزاياه على عيوبه مع وجود العيوب ويغلب خيره على شره فيكثر نفعه المتكامل تدريجيا ويقل ضرره المتعاطل تدريجيا بإذن الله وفضله ومشيئته، إنما المجتمع السمة الغالبة عليه فليس المجتمع الجانب الفارغ من الكوب إنما الجانب الممتلئ منه، والجانب الممتلئ خير وغلبة الخير في المجتمع آيلة إلى انتشار الخير وانحسار الشر على كافة الأصعدة بإذن الله وفضله ومشيئته، أرى أن الخير غالب في مجتمعنا اليوم وهذا أساسه حسن الظن بالله وحسن الظن بالله لا يخيب بتاتا، حسن الظن ثابت والمعطيات متغيرات، والمجتمع بطبيعة الحال غير مسؤول عن شر ساسته إذا ما خالفت ساسته مصلحته، فالساسة المتزنة هي الساسة التي تُغَلِّب مصلحة المجتمع على مصالحها الشخصية، الساسة جزء من المجتمع عندما يكون الغالب عليها تحقيق المصلحة العامة للكل وهو ما فيه الخير للصالح العام أما عندما تخالف الساسة مصلحة المجتمع تصبح الساسة نشازا لا يمت سوؤها للمجتمع بأية صلة فسوء الجزء لا يعني سوء الكل بالأساس. 

قال صلى الله عليه وسلم : (إذا قال الرجلُ هلكَ الناسُ فهو أهلَكُهُم) [أبوهريرة:صحيح مسلم:2623]، نحن جميعا لسنا سيئون بالمطلق ولا محسنون بالمطلق، نحن سيئون كلما أسأنا محسنون كلما أحسنا، وعليه فإن عملنا وبذل جهدنا موجه إلى أنفسنا بالدرجة الأولى لأن يغلب الإحسان فينا سوؤنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلا وهذه هي مجاهدة النفس الملازمة للمرء في مجاهدته نفسه طيلة الحياة، بِدءًا بأنفسنا، نرضى عن ربنا ولا نرضى عن أنفسنا فالرضا عن النفس يسبب ضعف الهمة وركود العمل وعدم الرضا عن النفس يسبب علو الهمة واستمرار بذل الجهد والعمل باتجاه الإحسان أكثر فأكثر إلى أقصى المستويات وذلك ما يقلص السوء أكثر فأكثر إلى أدنى المستويات، والرضا عن الله في قضائه وقدره من كمال الإيمان بحكمته فيه وهو وحده سبحانه ولي التوفيق والسداد إلى ما فيه الخير والنفع لأنفسنا وللناس من حولنا على حد سواء. 

فلنعي أن قضية تحقيق الخير تبدأ بداخل الإنسان نفسه، فلنعي أن الإنسان ليس ملاكًا ولا شيطانًا فلنعي أن الإنسان يصيب ويخطئ ما يصيب فيه فمن من فضل الله وما يخطئ فيه فمن نفسه والشيطان فلنعي أن رشد الإنسان يكمن في أن يجاهد نفسه طيلة حياته لتغليب صوابه على خطإه ولتغليب مزاياه على عيوبه ولتغليب خيره على شره قدر الاستطاعة والإمكان ليكثر نفعه لنفسه وللناس من حوله على حد سواء، فَلْنُولِي الأهمية لاستمرار تغليب الخير على الشر بداخلنا فيسود الخير بأوطاننا ويتحقق النفع العام تدريجيا، عندها تنهزم الأنا المجزئة القادمة من عمق الشر لتحقيق الشر وينتصر الضمير الجمعي القادم من عمق الخير لتحقيق الخير، قال صلى الله عليه وسلم: (خيرُ الناسِ أنفعُهم للناسِ) [صحيح الجامع:3289]، وقال أيضًا: (أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ) [المعجم الأوسط للطبراني:6026]، النفع معيار الأخيار والإيثار سجيتهم، فلنكن نافعين نكن أخيارا مؤثرين متحدين متآزرين لتحقيق ما فيه الخير للصالح العام قدر الاستطاعة والإمكان دون إفراط أو تفريط في كل شيء والله ولي التوفيق بيده الخير وهو على كل شيء قدير، المجتمع المتزن في ضوء استمرار تغليب الخير على الشر بذواتنا فيسود الخير والنفع العام تدريجيا بأوطاننا معًا في آن باعتدال وتوازن واتزان دون إفراط أو تفريط بإتقان قدر الاستطاعة والإمكان والله ولي التوفيق.


▪︎ علي الحبيب بوخريص.

▪︎ من كتابه نظرية الاتزانية.