سمو الإنسانية


لا بد من الانتصار على النفس وتسليم زمام القيادة للروح، عندها يبدأ الإنسان الحقيقي بإضافة المعنى للحياة، النفس تعبر عن المادة، والروح تعبر عن المعنى، سمو الإنسان في أن يغلب روحه على نفسه فلا تطغى المادة على المعنى لديه، قيمة الأشياء في معانيها ولا قيمة للمادة بدون المعنى بتاتا، انتصر على نفسك واسمُ بروحك واعلُ بهمتك، هذا حواري مع ذاتي وإيعازي لها بالخصوص، النفس في ضوء الروح والمادة في ضوء المعنى معًا في آنٍ باعتدال وتوازن واتزان دون إفراطٍ أو تفريطٍ بإتقان قدر الاستطاعة والإمكان.

إن الانتصار الحقيقي للإنسان في هذه الحياة هو انتصاره على نفسه ليصبح سيد نفسه بالخير، فيقتنع بالخير ويقول الخير ويعمل الخير، أن ينتقل بنفسه من أمارة إلى لوامة فمطمئنة، وهذه الطريق تتطلب الصبر والشكر لله في كل الأحوال، وتتطلب العزيمة والإصرار، وتتطلب السعي الحقيقي والتوكل على الله والثقة اللامتناهية بلطفه وعونه وحسن الظن به دائما في كل الظروف، ومعاملة الغير بإحسان، هذه هي المعركة الحقيقية التي قد يهرب منها العديد لافتعال معارك أخرى مزيفة، الإرهابيون والمتطرفون في أوطانهم هربوا من مجاهدة أنفسهم إلى مجاهدة إخوتهم ذوي الوطن والدين الواحد، أخذوا أخطاءهم وعلقوها على غيرهم، لم يروا الأخطاء في أنفسهم ورأوها فقط في الغير، ونسوا أن لا عصمة لبني آدم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن يظن أنه لا يخطئ فهو أكثر المخطئين، افتعلوا معارك في أوطانهم ضد إخوتهم لإرضاء أنفسهم التي تقودهم إلى  معارك لا تُرْضِي أرواحهم، وها هم الآن في اضمحلال، يضمحل الإرهاب والتطرف ليحل محله الاعتدال والاتزان تدريجيا.

لن تنتهي معارك الإنسانية جمعاء ما لم تنتصر الإنسانية على نفسها وتسمو بروحها، لن يهنأ الإنسان ما لم ينتصر على نفسه، هذه حقيقة مهما ابتعدت عنها الإنسانية فهي تلاحقها أيَّمَا مُلاحقة، تلاحقها لتفرض سمو روح الإنسانية على نفسها المادية لا محالة، الإنسانية الآن في حاجة إلى التوازن بينهما، التوازن بين المادة والمعنى، فكما تحتاج النفس إلى المال والأكل والشرب والمباني والمراكب الفارهة، تحتاج الروح أيضا إلى النظام والقيم والمبادئ النبيلة أن تسودها، إن العشوائية آيلة إلى الانتظام لا محالة، والفوضى آيلة إلى الاستقرار، سواء كنا في صف العشوائية والفوضى أم في صف الانتظام والاستقرار، انظر جيدا في عمق العشوائية ستعلم جيدا أن في لبها انتظامٌ آيلٌ إلى الظهور، انظر جيدا في عمق الفوضى ستعلم جيدا أن في لبها استقرارٌ آيلٌ إلى الظهور، لا يوجد حدث من عبث دائما هنالك حكمة، ليست حكمة الإنسان، بل حكمة خالق كل شيء ومليكه سبحانه وتعالى عما يصفون علوا كبيرا، فلم يخلق الله الكون عبثا وكل شيء خلقه بقدر وكل شيء عنده بمقدار، إذا زاد الشيء عن مقداره أو نَقُص اختل اتزانه واضطرب، قال تعالى: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر:49] ﴿وَكُل شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَار﴾ [الرعد:آية8]، اعلم جيدا أنه في وجود نظام الإنسان وفي غيابه أيضا هنالك نظام لا يغيب في الحالتين سيان، فدع الأحداث تَسْرِي في حال شأنها على أن لا تكون مصعدا للسوء بها، إن الأحداث لا تدوم على حالها فسبحانه الكريم يغير أحوالها، ولا تدع مجاهدة نفسك بتاتا، قلل سوأها إلى أدنى المستويات، ونمِّ الخير بها إلى أقصى المستويات، بذلك يغلب خيرك على شرك فيكثر نفعك عليك وعلى جميع من حولك، تلك هي معركتك.

إن حوار الذات مهم جدا في حياة الإنسان وإضافة مهمة في سير إصلاحه لنفسه، بذلك ينفع الإنسان نفسه والغير، تعرف على نفسك لتقليل سوئها إلى أدنى المستويات وتنمية الخير بها إلى أقصى المستويات، جهاد النفس لا ينتهي، إن الجهاد الأكبر في حياة الإنسان هو جهاد الإنسان لنفسه، لتحليتها بالفضائل وتخليها عن الرذائل، أن يسود الإنسان نفسه بالخير، وكُلَّمَا سَادَ الخيرُ بذواتنا سَادَ بأوطاننا، مجاهدة نفسي هي شغلي الشاغل ولا أعرف حقيقة في أي محطة من محطات هذه الطريق قد وصلت، قد أكون في بداية هذه الطريق، رغم أخطائي العديدة، ولكن الثمرة هنا أن الشعور بالتقصير دافع للمثابرة، لا ترضَ عن نفسك في طريق مجاهدتك لها فالرضا عن النفس يسبب ضعف الهمة وركود العمل، مراجعة واستدراك على الدوام، اعتدالٌ فَاتِّزانٌ فَإِتقانٌ والله ولي التوفيق.


▪︎ علي الحبيب بوخريص.

▪︎ من كتابه نظرية الاتزانية.