الدولة المتزنة


الدولة المتزنة - ببساطة - هي وصول الدولة وتحقيقها لحال الاتزان والذي بطبيعة الحال لا يكون إلا بعد وصولها وتحقيقها لحال الأمن والاستقرار، الدولة المتزنة بسيطة وخالية من التعقيد والتكلُّف، أراها وأتصورها متسمة بالبساطة والبداهة والاعتدال، توازنٌ بين تحقيق الحقوق والواجبات فيها، لا إفراطَ ولا تفريطَ في كليهما، بل اتزانٌ في كل أمورها، وجميع من في الدولة المتزنة سواسِيةٌ أمام القانون، دولةٌ مُقْسِطة مُنْصِفَة غير مُفْرِطَة ولا مُفَرِّطة، مُبَسِّطة مُيَسِّرَة غير مُتَكَلِّفَة ولا مُتَصَعِّبَة، الدولة المتزنة في ضوء الاتزانية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدولية، تُصَدِّر نِيَّة الخير وتُرَسِّخ القيم والمبادئ النبيلة وتنشر القناعات والأفكار الحسنة المثمرة الدافعة إلى العمل بما فيه تحقيق الخير للصالح العام على كافة الأصعدة، مُراجِعة مُستدركة مُتصالحة مُتسامحة مُتقابلة مُتعرِّفة مُجتمعة مُتحاورة مُتشاورة مُتوافقة على ما فيه الخير للصالح العام بكافة مُكَوَّناتها، معتدلة متوسطة بين كافة أصعدتها، متوازنة مُوَزِّعة للجهد بالتساوي على كافة أصعدتها، متزنة بإعطاء كل شيء قيمته دون زيادة أو نقصان وتُعْمِلُ الموازنة المستمرة لترجيح المنافع ودفع المضار قبل إصدار جميع القرارات في كافة أصعدتها، متعاونة متضامنة متحدة بكافة مُكَوَّناتها الخيرة جُهُودًا نحو تكامُل المنافع للصالح العام وتعاطُل المضار عنه على الدوام وفقًا للمهام المناطة بالجميع في شتى مجالات الأعمال على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تحقيقًا لما فيه الخير للصالح العام خالصًا لوجه الله الكريم وابتغاءً لمرضاته وفق ميزانٍ سليمٍ مَعًا في آنٍ باعتدال وتوازنٍ واتزان دون إفراطٍ أو تفريطٍ في تكامُل المنافع للصالح العام ودون إفراطٍ أو تفريطٍ في تعاطُل المضار عنه على الدوام بإتقانٍ قدر الاستطاعة والإمكان.

الدولة المتزنة تعيش حالة توازن بين سياساتها الداخلية والخارجية، باهتمام تُكَرِّسُه بداخلها قبل أن يكون اهتمامًا بخارجها، اهتمامٌ بالداخل يتمثل في اهتمامها بكافة مُكوَّناتها – شعبها وسلطاتها وأرضها ومؤسساتها – والوقوف عند مسافة واحدة مع الجميع وتعزيز التواصل معهم، واهتمامٌ بالخارج يتمثل في اهتمامها أولا بالدول المجاورة لها وتوطيد العلاقات معها، تلك الدول التي هي على نطاق حدودها الجغرافية، واهتمامها أيضا بتوطيد علاقاتها الخارجية على نطاقٍ أوسع وإنشاء صداقات دولية متزنة تُعَزِّز بها سبل التعاون والتضامن الدولي وتبادل المصالح والمنافع المشتركة، تلك التي ترتقي بالدولة شعبًا وأرضًا ومؤسسات وترتقي بالإنسانية خارجها.

الدولة المتزنة تُعَزِّز الاحترام الدولي المتبادل وتحفظ سيادتها واستقلاليتها بين الدول، وتحفظ كافة ثرواتها الطبيعية واستثماراتها لتكون عوائدها مُترجَمَةً للشعب والأرض والمؤسسات بها، بتيسير كافة المتطلبات والاحتياجات اللازمة للعيش الكريم والارتقاء بالدولة شعبًا وأرضًا ومؤسسات مَعًا في آنٍ واحد ومواجهة التحديات والعراقيل التي تواجههم على الدوام تكامُلًا للمنافع وتعاطُلًا للمضار تجاه الصالح العام على كافة الأصعدة.

الدولة المتزنة تعيش حالة توازن في البناء والتنمية، ببناء وتنمية الشعب والأرض والمؤسسات مَعًا في آنٍ واحد، فالدولة المتزنة ليست دولة ذات بنية تحتية هشة وبيئة بمؤسسات متردية وشعب يعيش بمستوى غني ماديا ومعرفيا، وهي أيضا ليست دولة ذات بنية تحتية قوية وناطحات سحاب شاهقة وشعب فقير يعيش حالة تدني في مستوى معيشته ومعرفته وبيئته الطبيعية، بل هي دولة تتزن في بناء وتنمية الشعب والأرض والمؤسسات، وعمار الأرض والمؤسسات في ضوء عمار الإنسان مَعًا في آن باعتدال وتوازن واتزان دون إفراط أو تفريط بإتقانٍ قدر الاستطاعة والإمكان.

الدولة المتزنة تضع الحد الأدنى لمستوى معيشة شعبها بناءً على مقدراتها وعوائد ثرواتها الطبيعية واستثماراتها وتماشِيًا مع تيسير سبل كافة الاحتياجات الضرورية والأساسية لشعبها وأرضها ومؤسساتها، الدولة المتزنة تضع الحد الأدنى لمستوى الرواتب بمؤسساتها وقطاعاتها الخدمية والإنتاجية بناءً على مُعدَّلات الأداء ومستوى الإنتاجية الذهنية والمادية والعوائد السنوية بها. 

الدولة المتزنة تعزز التعليم والمعرفة لكافة مواطنيها وتُوَاكِب جميع التطورات بها على كافة الأصعدة، وهي دولة دائمة التَّوسِعة لأنشطتها الاقتصادية لتستوعب سنويًّا أكبر عدد ممكن من خِرِّيجِي مؤسساتها التعليمية ومعاهدها وجامعاتها بكافة اختصاصاتها المتنوعة، بذلك تدعم الدولة التعليم والمعرفة والعمل والتوظيف وتقلل البطالة إلى أدنى مستوياتها، وتفتح آفاقًا توظيفية جديدة لكافة الاختصاصات التي تُدَرِّسُها في مؤسساتها التعليمية وجامعاتها ومعاهدها، الدولة المتزنة تعزز الصحة وتدعم الماء والغذاء والبيئة والدواء وسبل الوقاية والعلاج وتوفر جميع متطلباتها اللازمة بالمؤسسات العلاجية بكافة اختصاصاتها أمنا وتأمينا صحيا لكافة مواطنيها وتواكب التطورات بها تحديثًا مستمرا على كافة الأصعدة. 

الدولة المتزنة تقوم سنويا بتوسعة رقعتها السكانية بإنشاء المدن والمساكن بناءً على تعداد سكانها ومساحاتها البرية الشاغرة وتمنح الدولة هذه المساكن للمواطنين بأقساطٍ تتماشى مع دخلهم المحدود، وتهتم بالبيئة والطرقات والمدن والأزقة وتنشئ الملاهي للأطفال وتنشئ المنتزهات المناسبة لخروج العائلات وتنزهها.  

الدولة المتزنة تحفظ أمن واستقرار مواطنيها وتحفظ أمن حدودها الجغرافية ومنافذها البرية والبحرية والجوية وتحفظ أمن منشآتها ومؤسساتها وكافة مناحي أراضيها، الدولة المتزنة تدعم جيشها وأمنها وكل نقاط القوة بها، وتقلل نقاط الضعف بها وتُقَزِّمها إلى أدنى المستويات، الدولة المتزنة تدعم الفصل المتوازن بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية كُلًّا وفق اختصاصاتها، وتُرَسِّخ المراجعة والاستدراك والتصالح والتسامح والتقابل والتعارف والاجتماع والتحاور والتشاور والتوافق على ما فيه الخير للصالح العام بين كافة مُكوَّناتها لاسيما بين سُلُطاتها ومؤسساتها بكافة الموظفين بها، الدولة المتزنة تُرَسِّخ كُل القيم والمبادئ النبيلة وتنشر القناعات والأفكار الحسنة المثمرة وتنبذ كل الأفكار الهدامة المتطرفة وتنبذ البغضاء والكراهية والتفرقة والعنصرية بداخلها، الدولة المتزنة تنبذ كل أشكال النزاعات بين أبنائها في أرضها وتحرص دائما على تآلفهم واتحادهم، الدولة المتزنة متحدة بكل شعبها وسلطاتها ومؤسساتها وأرضها وهي دولة غير قابلة للتقسيم، الدولة المتزنة تعزز الثقة بينها وبين شعبها وكُل مُكَوَّناتها بكافة الموظفين بها مُنتجةً بذلك حِصْنًا منيعًا ضد أي أعداء قد يحاولون اختراقها للعبث بها وبشعبها وأرضها ومؤسساتها وثرواتها الطبيعية واستثماراتها. 

الدولة المتزنة تُخطط وتُنظم وتُوَجِّه للخير، لِكل قول وعمل يخدم الصالح العام بما يُرضِي الله، الدولة المتزنة تُوزِّع المهام والمسؤوليات باتزان وأمانة وانعدام للمحسوبية، الدولة المتزنة توزع المهام والمسؤوليات بناءً على الكفاءة والجدارة وحسن السيرة والسلوك مع المواطنين، الدولة المتزنة لا يوجد بها تغليب للمصالح الشخصية والأهواء المتنازعة، الدولة المتزنة تخدم للصالح العام والمصلحة العامة تخدم الجميع، الدولة المتزنة تُعزز مشاركة جميع الشعب في بنائها والتعاون والتضامن والوحدة وتوحيد الجهود لتحقيق ما فيه الخير للصالح العام على كافة الأصعدة أساسٌ فيها للبناء وفق ميزانٍ سليم معًا في آنٍ باعتدال وتوازن واتزانٍ دون إفراطٍ أو تفريطٍ بإتقانٍ قدر الاستطاعة والإمكان، الدولة المتزنة بالجميع وللجميع تصنع حاضِرًا ومستقبلًا أفضل وعلى الله فليتوكل المتوكلون.

إنَّ هذا التصوُّر لا يُعَدُّ إلا تصوُّرًا لما بعد تحقيق حال الأمن والاستقرار وهذا التصور أساسه حُسن الظن بالله وأعِي تمامًا أن هذا التصور قد لا يمُتُّ حاليا للواقع بصلة ولكننا لسنا ملزمين بأن نفكر في الواقع السيء فقط فقد نبدأ جميعًا واقِعًا أفضل بطريقة تفكيرٍ أفضل وأفكارٍ أفضل، وعلى أملٍ بالله أن يتحقق لدولتنا حال الأمن والاستقرار للمُضِيِّ قُدُمًا بتحقيق حال اتِّزَانٍ يتبعهُ نجاحات وإتقانٌ في شتى مجالاتها، ولكل دولة تشهد حالة من الاضطراب كحالة الاضطراب التي نعيشها اليوم في وطننا الحبيب ليبيا والذي نقول أنه قد بدأَ في التعافِي تدريجيًّا، وهنا يجدر بي أن أذكر في الختام أن الاتزان ليس غاية تقف عندها الدولة بعد تحقيق حال اتزانها بل الاتزان وسيلةٌ ومحطة تستمر الدولة المتزنة من خلاله في مسيرة البناء والتنمية لتُحقق حالَ النجاح والإتقانِ على كافة أصعدتها والله ولي التوفيق. 


▪︎ علي الحبيب بوخريص.

▪︎ من كتابه نظرية الاتزانية.