نظرية الاتزانيّة


لا ريب أن الحياة بتجاربها ومآربها العديدة تضعنا دائما أمام خيارات إلزامية في شتى مناحي حياتنا ومجالات أعمالنا، ونظرًا إلى ذلك تصدر قراراتنا بناءً على اختياراتنا المبنية على قيم ديننا الحنيف ومبادئنا ومعرفتنا المسبقة وقناعاتنا وأفكارنا ورؤانا ووجهات نظرنا حيال كل ما يعترينا من أمور، فالخيارات الإلزامية التي تعتري الإنسان في جميع أصعدته سواء على مستواه الشخصي أو على مستوى عمله في دولته بتعدد المهام والمسؤوليات فيها من أدنى وظيفة إلى أقصاها إنما تتطلب منه إصدار القرار، قد يكون الخيار إلزاميا بين نفع ونفع في بعض الأمور، أو خيارا إلزاميا بين ضرر وضرر في بعضها الآخر، أو خيارا إلزاميا بين نفع وضرر في معظم الأمور، ماذا سنفعل حينها وكيف ستكون اختياراتنا التي ستصدر بناءً عليها قراراتنا؟. يجب أن نقرر الخير. وكيف يكون ذلك؟ ببساطة هذا ما تتحدث عنه الاتزانية.

نظرية الاتزانية الفكرية في ضوء عملية الموازنة المستمرة قبل إصدار القرار لترجيح المنافع ودفع المضار وتحصيل أقصى نفع وأدنى ضرر في كافة قراراتنا العامة والخاصة على حد سواء، تحقيقًا لما فيه الخير للصالح العام في شتى مناحي حياتنا ومجالات أعمالنا على كافة الأصعدة وفق ميزانٍ سليم، مَعًا في آنٍ باعتدال وتوازن واتزان دون إفراط أو تفريط في تكامل المنافع ودون إفراط أو تفريط في تعاطل المضار بإتقانٍ قدر الاستطاعة والإمكان. 

إن تحصيل أقصى نفع وأدنى ضرر في جميع أصعدتنا بقراراتنا التي تفصل بين الخيارات التي تطرح أمامنا كل يوم إنما يتطلب منا الموازنة قبل إصدار القرار، وهنا تكمن أهمية الاتزانية، فهي تقوم على الموازنة قبل إصدار القرار الذي يفصل بين الخيارات التي تطرح أمامنا كل يوم في شتى مناحي حياتنا ومجالات أعمالنا، وكما أسلفنا قد تكون هذه الخيارات في بعض الأحيان بين نفعين، وفي بعضها الآخر بين ضررين، وفي معظمها بين نفع وضرر، وتكون الموازنة لترجيح المنافع ودفع المضار وتحصيل أقصى نفع وأدنى ضرر فنحقق بذلك ما فيه الخير للصالح العام.

إن أوجه الاتزانية لتحصيل أقصى نفع وأدنى ضرر في كافة قراراتنا العامة والخاصة تكون على النحو التالي:

1. الموازنة بين نفعين: يُقَدَّم تحصيل النفع الكثير على النفع القليل، بتحصيل الأقصى يترك تحصيل الأدنى ويؤخر فنحقق بذلك خير الخيرين. 

- أقصى نفع: (تمثل في تحصيل النفع الكثير)، وأدنى ضرر: (تمثل في عدم تحصيل النفع القليل وتأخيره).

2. الموازنة بين ضررين: يُقَدَّم تحصيل دفع الضرر الكثير على دفع الضرر القليل، بحصول الضرر الأدنى يدفع الضرر الأقصى فنحقق بذلك خير الشرين.

- أقصى نفع: (تمثل في تحصيل دفع الضرر الكثير)، وأدنى ضرر: (تمثل في حصول الضرر القليل وتأخير دفعه).

3. الموازنة بين نفع كثير وضرر قليل: يُقَدَّم تحصيل النفع الكثير على دفع الضرر القليل، فنتحصل على أقصى نفع وأدنى ضرر فنحقق بذلك الخير.

- أقصى نفع: (تمثل في تحصيل النفع الكثير)، وأدنى ضرر: (تمثل في حصول الضرر القليل وتأخير دفعه).

4. الموازنة بين ضرر كثير ونفع قليل: يُقَدَّم تحصيل دفع الضرر الكثير على تحصيل النفع القليل، فنتحصل على أقصى نفع وأدنى ضرر فنحقق بذلك الخير.

- أقصى نفع: (تمثل في تحصيل دفع الضرر الكثير)، وأدنى ضرر: (تمثل في عدم تحصيل النفع القليل وتأخيره).

5. الموازنة بين نفع وضرر متساويان لَدَى الموازِن: يُقَدَّم تحصيل دفع الضرر على تحصيل النفع عند التساوي لَدَى الموازِن لِما في دفع الضرر من نفع أكثر، فنتحصل على أقصى نفع وأدنى ضرر فنحقق بذلك الخير.

- أقصى نفع: (تمثل في دفع الضرر المساوي للنفع في الموازنة)، وأدنى ضرر: (تمثل في عدم تحصيل النفع - المساوِي للضرر في الموازنة - وتأخير تحصيله).

الاتزانية الفكرية مهمة لنا جميعًا على كافة الأصعدة في شتى مناحي حياتنا ومجالات أعمالنا فلنسعى لتحقيقها ما استطعنا، الاتزانية مهمة في شخص رئيس الدولة وقراراته فيصل إلى تحصيل أقصى نفع وأدنى ضرر لشعبه وأرضه على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفي كافة مناحي حياته ومسؤولياته، الاتزانية مهمة لقرارات السلطة التنفيذية وشخوصها لتحصيل أقصى خدمات نافعة وأدنى تقصير مضر على المستوى الخدمي للمواطنين في كافة اختصاصات الوزارات الخدمية، الاتزانية مهمة لقرارات السلطة التشريعية وشخوصها - نواب الشعب - لتحصيل أقصى المنافع وتكميلها وأدنى المضار وتعطيلها عبر تخطيطها النافع وتنظيمها لـ اللوائح والتشريعات النافذة للسلطة التنفيذية لتحقيق ما فيه الخير للصالح العام، الاتزانية مهمة للسلطة القضائية للوصول إلى مجتمع أكثر سِلمًا وأقل جريمة.

الاتزانيّة مهمة في التعليم لتنميته في كافة الاختصاصات والوصول إلى مجتمع أكثر علما وأقل أمية، الاتزانية مهمة في الصحة لتنميتها في كافة الاختصاصات والوصول إلى شعب أكثر صحة وأقل مرضا، الاتزانية مهمة في الهندسة والمعمار لتنميته في كافة الاختصاصات والوصول إلى بناء ومعمار أكثر مزايا وأقل عيوبا، الاتزانية مهمة في الخطاب الإسلامي وشخوص الدعوة الإسلامية السمحاء لتحصيل الوعي بالاعتدال والاتزان في فهم الدين ودفع الاضطراب والتطرف المسيء لفهم الدين فالدين من الاضطراب والتطرف براء قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُم أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة:143]، لاسيما أن الموازنة والترجيح وفق ميزانٍ سليم لها شواهدٌ عديدة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَان﴾ [آية٩:سورة الرحمن] وقال صلى الله عليه وسلم: (اتَّزِن وَأَرْجِح) [أبوهريرة:المعجم الأوسط:٦/٣٦٩]، وقد اعْتَنَى بفقه الموازنات وأهميتها فُقهاء علم أصول الفقه ومقاصد الشرع - أحد العلوم الدينية الشرعية – وفي مقصود الشرع من الخلق يقول الإمام الغزالي رحمه الله: (إنَّ مقصود الشرع من الخلق خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة) [المستصفى للغزالي:صفحة174]، وكم نحن اليوم بحاجةٍ إلى الموازنة المستمرة لترجيح المنافع ودفع المضار قبل إصدار جميع قناعاتنا وأفكارنا ووجهات نظرنا وآرائنا وقراراتنا في شتى مجالات العلوم الإنسانية النافعة ووفقًا لمهامنا المناطة بنا في جميع أعمالنا وأدوارنا في دولنا على كافة الأصعدة وفق ميزانٍ سليمٍ مَعًا في آنٍ باعتدال وتوازن واتزان دون إفراط أو تفريط في تكامُل المنافع ودون إفراطٍ أو تفريط في تعاطُل المضار بإتقانٍ قدر الاستطاعة والإمكان وهذا ما اعتنت به نظرية الاتزانية الفكرية، الاتزانية الفكرية مهمة لنا جميعا في شتى مناحي حياتنا ومجالات أعمالنا فهي باختصار تجعلنا أكثر نفعا وأقل ضررا بإذن الله وفضله ومشيئته، وسلامة الميزان لدى الموازِن هي التي تؤدي لسلامة الاختيارات عند الموازنة ورجاحة القرارات عند إصدارها، فالأهم من أن تكون الآلية الفكرية للموازِن سليمة هو أن يكون الميزان لديه أسلم. 

فلندعُ إلى تحقيق الخير، ولنسعَ ليكثُر النفع ويقِل الضرر بِدءًا بأنفسنا وانتقالا إلى ما حولنا لننفع وننتفع ابتغاءً لمرضاة الله ووجهه الكريم سبحانه والتوفيق بالله عليه نتوكل وإليه ننيب، قال تعالى: ﴿وَلْتَكُن منكُم أمَّةٌ يَدعُون إلَى الخَيْر﴾ [آل عمران:104]، إن أول خطوة لتحقيق الخير هي أن ننوي الخير، ثم السعي والتوكل على الله لتحقيق الخير قدر استطاعتنا في شتى مناحي حياتنا ومجالات أعمالنا خالِصًا لوجه الله الكريم وابتغاءً لمرضاته والله ولي التوفيق بيده الخير وهو على كل شيء قدير.


▪︎ علي الحبيب بوخريص.

▪︎ من كتابه نظرية الاتزانية.